10‏/07‏/2012

مدينه "زرادق"


حدث فى زمن لا ندركه فى بلده لا نعرف عنها الا انها كانت خلف الجبل الاصفر العالى المتموج بالرمال التى تتطاير مع الرياح لتغطى اسطح البيوت المسقوفه بالخوص والاخشاب وتتراكم على اعتاب الابواب الضيقه القصيره , والسكون يعم شوارعها لا اطفال يلعبون ولا نساء يستلقين فى دوائر النميمه ولا رجال يتحطبن او يتبادلن السباب حتى ان القادم من بعيد يدرك من الوهله الاولى انها اطلال لبيوت خربه تركها اهلها , الا ان من اقترب واحدثت خطواته خشخشة بين الرمال ترائت اليه نظرات الصبايا من النوافذ والغلمان من خلف الأزقه , واذا ابتسم لاحدهما بادلك بفيه يشع منه اصفرار اسنانه وازدادت تجاعيد وجهه التى تنم عن حرقه من لهيب الشمس الحارقه المتعامده فوق الرؤوس فى وسط السماء , وسرعان ما يهدأ توهجها وتسقط خلف الجبل حتى يعم الظل والنسيم يلفح الوجوه والحركه تدب فى المكان والعمل فى نظام لم تعرفه البلدان الاخرى , الشباب والرجال والنساء وحتى الاطفال كل له دوره ومكانه وكأنها خليه لا تنفصل اجزائها عن الدوران والحركه , لا يتحدثون الا بذكر امجاد التاريخ واحوال السابقين, من بينهم كان "زردق" وهو الشاب العشرينى المتقلب الاحوال ليس من نهاره الا العمل ومن ليله الا التفكير والامل , تفكيره لم يتعدى حدود الجبل وكأن حدود العوالم تنتهى عند موضع القدم , ولم يشغل بال "زردق" كحال اهل البلده سوى ذكر الامجاد ونهضه الاولون الذين لم يدركهم ولا يعرف عنهم الا ما يحكى , فتسائل فى نفسه هل ما نتناقله هو عين الصواب ام ان الرواى قد يخطئ فى النقل او يبالغ فى الوصف او يتغاضى عن بعض المساوئ ليزيد من ألفه السامعين , فقرر ترك المحال والانتقال الى ما بعد مرمى الابصار , سار حتى بلغ ما دون الجبل من الناحيه الاخرى التى لم يراها سواه , واعتزل قومه فى كهف ظليل بين طيات الجبل ثلاثه اعوام الا خمسين يوما لا يأكل فى يومه الا تمره ولا يشرب الا بلعه , ولا يفعل سوى الانكباب على التفكير حتى ظن انه يوحى اليه من فوق السماء , يتوه فى الاوفق ويذوب فى الافكار ويكتب على وريقات ما قد يطارئه , ثم قرر العوده الى البلده الهادئه فوجد اقوام غير اقوام يلبسون ما يشبه حكايات الاقدمين ويتحدثون بلغتهم , واختفت النساء على غير المعهود وقل العمل فى المكان واختفى اللهو المسترق وقت الفراغ , وعندما سأل عن تغير الحال قالوا : اننا عدنا الى التاريخ لنصل الى الحضاره .
فقال "زرادق" : وهل الحضاره تأتى بتغيير الهيئه والمظهر ؟
فأجاب احدهم : نقلد الاسبقون فنصير مثلهم .
دار بعقله دخان الغضب ودوامه الافكار وتسائل فى نفسه , اى فكره هذه التى زرعت فى عقولهم ونمت حتى اصبحت غابه من الصبار الشائك لا يقربها احد وغلب عليهم التقليد حتى انعدام التفكير فترامت اليه من بعيد اختفاء النساء عن المشهد فسأل عنهم , وعصفته الاجابه بقول احدهم : لم نسمع ان اجدادنا كانوا يذكرونهم فمنعناهم عن الظهور .
ازداد الغضب بداخله حتى اشتم رائحه احتراق بعضه بداخله وحاول كتمان غيظه وقال : كان اولى ان تقلدوهم فى اسباب نهضتهم لا مظاهر بيئتهم , الم يعملوا بكد حتى كتب تاريخهم على رمال الجبل المتحركه , الم يبنوا البيوت ويؤصلوا فيكم الانساب ويشيعوا فيما بينهم العدل والرحمه , ولماذا لم تعودوا الى ما قبل هذه البيئه الى حين كانت قدسيه المرأه , وتتويجها وسط الملوك وانحناء الرجال تحت اقدامها ؟
قال بعضهم : الا يعجبك ملبس الاولون , اتهزأ بهم ام انك تدعوا الى الفجور والاثام ؟
فأجاب بوجه يملؤه العبوس : بل انا اذكركم بمآثر الاولين , هم من اسسوا القيم واولها حين تنازلت المرأه عن قدسيتها لتكون على قدم المساواه مع الرجل , فتجعلونها تحت اقدامكم .
فخرج صوت من خلف التزاحم الذى عم النقاش : لن تمكث فى بلدتنا هذه , عد من حيث اتيت او لنقتلنك .
وقال اخر : أى قدسيه هذه التى تتقولها , ما عهدنا على النساء الا خدمه الرجال وما نبت من ظهورهم.
فقال "زرادق" : بل انها استحداث ابائنا .
ثم عقب بقول صارخ : اين التقدم والحضاره التى وصلتم اليها بعد التقليد الظاهرى بأفعالكم ؟ هذه البيوت الغارقه فى الرمال والاعمال المتعطله ... هل تقدمتم , كان اولى ان تبحثوا عن طرق لوقف زحف الرمال او سبيل لتطوير فى الذات والعمل وحتى الملبس .
زادت الهمهمات وسط الحشود وكأنهم بهتوا بما قال ولكنهم كابروا بأفعالهم فأمروا بقتله ذبحا لا شنقا وقطعوا اطرافه ووزعهوها على اطراف المدينه البعيده , واندثر "زرداق" وسط الرمال التى اتى منها مرتين .

اختلفت الاقاويل حول هذه المدينه التى لم يرها احد فالبعض يقول بأنها ظلت فى اوهامها حتى دفنتها الرمال فلا نعرف مكانها , والبعض يقول ان اهلها تقاتلوا حول روايات التاريخ فلم يبق منهم احد وبقايا بيوتهم خلف جبل بجزيره وسط ظلمات البحار .

شارك اصدقائك