19‏/07‏/2012

عقل الغاب

صدى بكائه كان يدوى وسط الصحراء الواسعه التى لا ترى ابعادها , طفل بلغ عامه الاول ولا نعرف كيف وصل الى هذا المكان , هل تركه ابواه ؟ ام هما من القوا به الى هذه الصحراء ؟ ام انه لعب بعيدا عن اجتماعهم حتى تاه منهم ؟ , لا يشغل الطفل الباكى كل هذا سوى انه لسعه الحر وجفف حلقه العطش واعتصر امعائه الجوع , إلا انه تقلب فى الرمال وخطا بخطواته البطيئه الضعيفه المتقطعه حتى آنسه ظل شجره متراميه وسط الرمال كان قد نسيها غبار العواصف القاتله فخفت حده الجو وشعر بنسيم يجيئ بين الحينه والاخرى , سكت عن بكائه وتقلب تحت الشجره يستشعر بروده الرمال لتخفف من سخونه جسده وتعلق بفروعها المتدليه فشعر بطراوه جعلته يمتصها ويبتلع ما تعلق بأسنانه التى لم يظهر منها سوى زوج سفلى , تحول بكائه لضحك واختفت دموعه واحس بالشبع وبدأت الشمس بالهبوط من عنان السماء والليل يفرش سرابله على اوطاد الارض  وغشيه النوم حتى ايقظه نور الصباح , لم يبرح مكانه ولا يفعل فى يومه الا اللعب بفروعها واوراقها الجافه سوى من قليل الماء الذى يمصه  , ثم انتقل الى مجموعه اشجار متلاحمه كان قد رآها على مرمى بصره فكفيته امتصاص اوراقها واكله وكان قد كبر حجمه وزاد طوله , ظل ينتقل من شجره الى اخرى حتى اهتدى الى منطقه فاصله بين الصحراء والخضره وتنوعت انواع الوريقات التى يأكلها ولكنه لا يمس الزهور لجماهلها ويحوطها بقطع خشبيه تمنع اقدام الحيوانات من دهسها , ورأى  من الحيوانات كلبا آنسه وعاش معه ورعاه , وقسم الارض لاجزاء بالتساوى واهتدى الى زرع بزور النباتات التى كان يأكل منها , ورغم ان الزرع ذو الوريقات العريضه كان احبها اليه الا انه لم يزد فى زراعته عن غيره من الزروع , يهبط المطر فيجمع ماءه فى حفر يشرب منها ويسقى زرعه , حتى قل المطر وجف الزرع فانتقل الى ارض اخرى بعيده بقرب نهر كان وجده فى طريقه , ولم يكد صفوه يهدأ الا حطم الصمت اصوات مزعجه تزلزل الارض من بعيد فاستطلع الامر ليجد الماكينات والعمال يحطمون الاشجار ويدهسون الزهور ويتعالون فى البنايات دخل فى اوساطهم حتى وجد نفسه فى وسط المدينه الصاخبه التى لم يراها من قبل , والبشر اشباهه الذين لم يذكرهم , سيارات تسير هنا وهناك واطفال يلهون ويلعبون ونساء لم تسبق له ان عرف بوجودهم , حياه غير حياته ولكنهم يتحدثون لغته , جلس على سور حديدى يجوب حوله الناس ويتراصون عليه رجال ونساء فمر من امامهم كلبا تذكر كلبه وسرعان ما هجم شخصا عليه وركله حتى عوى وابتعد فتعجب من الفعل لا يعرف السبب ولم يهتد لمغزى من فعله وركن عقله الى عدم الاهتمام , ثم جلست بجواره فتاه يبدو انه ارهقها السير فابتسمت له فبادلها وتحادثا ولم يطل حديثهما حيث انه لم يفهم نصف ما تقول واخر كلمه قالتها قبل ان تهم بالذهاب " يبدو انك لست من هذا الزمان " , عبرت الطريق وغابت وسط زحام العربات ولم يرى منها سوى رأسها وهناك من يوقفها ويجذبها من يدها وهى تقاومه فاندفع نحوها اثنان اخران ليساعداه وقد بدا عليهما الغيظ والماره فى الطريق لا يهتمون ولا ينظرون ولا حتى يتسائلون فانتفض جسده وأصر على عبور الطريق , ارتفع صوت المنبهات وتوقفت العربات واصطدم بعضها ببعض حتى مر الى الطرف الاخر وسألهم بهدوء : ماذا تفعلون ؟ . فما كان منهم الا ان ازاحوه من امامهم واستمروا فيما يفعلون فتحركت اعضائه رغما عنه يده تلكم هذا ويركل ذاك ويلطم الاخر حتى تحررت الفتاه من قبضتهم وفروا مهرولين ووجوههم يملؤها الخوف كفئران الزروع التى كانت تهاجمها القطط , شكرته الفتاه التى لا يعرف عنها شيئا وقالت بصوت يملؤه الغضب "انعدمت المبادئ " لم يفهم مقولتها وسار بجوارها كالطفل الذى وجد امه او الاخ الحامى لاخته , بدأت تحدثه عن نفسها واهلها ودراستها وهو يستمع فى سكون وصمت يحاول ان يدرك الكلمات البسيطه التى يسمعها ولاول مره يحادثه فرد من بنى جنسه , واثناء سيرهم سمع كلاما من خلفه يقوله احدهم بصوت أجش " انظر الى هذه الفتاه ماذا ترتدى ؟ , وانظر الى تلك كيف تسير ؟ , علينا ان نصل الى الحكم لنمنع اشباه هولاء من السير فى الشوارع " فالتفت نحو الصوت فوجدهما رجلان ضخام البنيه يخالط شعر رأسهم ولحيتهم الشيب وبطونهم الكبيره ممتده امامهم وتذكر ملامحهم كان قد رآهم وسط الماره حول الفتاه وهو يخلصها من الثلاثه الذين تمسكوا بذراعيها , غلبه الزهول والحيره وامتلأت رأسه بالافكار العجيبه أكان اولى بهولاء ان يدافعوا عن هذه الفتاه , فقطع افكاره صوت الفتاه وهى تقول " لا تشغل بالك بهم فهم دعاه التدين الظاهرى وكأنه لم يسمع عن غض البصر , وكأن الفتاه التى اشار اليها تسير عاريه " ادرك ما تقصد على رغم عدم فهمه لكثير من الكلمات ... تدين ... غض ... عاريه . هكذا رددها فى عقله , وصلا الى مفترق طرق وهو ما زال يسير فشدته لتوقفه وصرخت بوجهه الا ترى الاشاره خضراء , وقف وصمت فى تعجب حتى رأى ضوءا اخضر فوق رأسه وما ان تغير للون الاحمر حتى توقفت السيارات واخذت بيده ليمرا وفجأه صوت احتكاك بالارض ومنبه عالى وارتطام سياره بعجوز كانت تمر , عادت السياره للوراء والتفت حول العجوز وذهبت مسرعه , اتجه نحو العجوز ورفع رأسها عن الارض وصرخ فى الماره الذين لا يعنيهم الامر سوى بالتفاته استطلاع للامر وكلهم ذهبوا من حوله حتى الفتاه وسرعان ما قدمت سياره برتقاليه اللون ويدوى صوتها فى الفضاء , وقفت بجواره ونزل اثنان ليحملا العجوز وسألاه : هل أنت معها ؟ فهز رأسه بإيجاب فقالا : اذن اصعد الى السياره . صعد معهم وهناك تقدم منه شخص بلباسه الابيض والنجوم على كتفه ليسأله :
-ما علاقتك بالضحيه ؟
-تعجب وقال لا اعرفها .
- هل أنت صاحب السياره التى صدمتها ؟
- لا
- لماذا احضرتها الى المستشفى ؟
- هل كان على ان اتركها مصابه فى الشارع ؟
- أجب على قدر السؤال , أين تسكن ؟
- انا اسكن وسط الزروع بجوار النهر .
- هل تدعى الجنون بعدما قتلت العجوز ؟
- هل ماتت السيده ؟
قالها وغرق فى بحر الدموع وتأنيب الضمير الذى لم يدركه ليهب العجوز حياه فوق حياتها . وهنا نادى الشرطى على اثنين ممن جاءوا معه بقوله
- خذوه الى قسم الشرطه حتى نرى ماذا نفعل معه .


شارك اصدقائك