04‏/09‏/2012

اعاده نظر


فى صبيحه هذا اليوم قررت على غير العاده ان اذهب الى المستشفى الجامعى , فقد بت معروفا بعدم انتظام حضورى للمحاضرات ليس لفشلى وانما لعدم الاستفاده من استاذ يشرح بطريقه التلقين الكلاسيكيه او اخر لا يستمع الا لكلماته فقط ولا يرغب بالمناقشه وغيرهم من متبعى الطرق الممله , وبما أننى لست مؤهلا للتعديل على اساتذه عظام كهولاء قررت عدم الحضور الا لمن اشعر باستفاده من كلامهم ولكننى حملت على عاتقى الذهاب اليوم ليضيع تعذيب الضمير فى مرور عام كامل دون حضور , وبعد ارتداء ملابسى ووضع العطر الخاص بى نزلت من السكن فى حلميه الزيتون متجها الى محطه المترو , كان الهواء منعشا والسماء صافيه والشارع شبه خالى من الماره حتى نهايته ولكنى رأيت اطفالا من عمر الثالثه وحتى العاشره بشعر اشعث وعيون غائره ووجوه لا تظهر ملامحها من (الوسخ) - لا اقصد التقليل او الاهانه باللفظ ولكن الوسخ هو ما يعلو الثوب والجلد من الدرن وقله التعهد بالماء – واجسام ضئيه وملابس مهترئه  قابعين على اكوام (الزباله) يفتشون فيها ويفرغون الاكياس وكأنهم يصنفون محتوياتها , يتصارعون اذا وجد احدهم بقايا طعام او على الاقل قطعه خبز والصراع الدامى يكون حين يجد احدهم قميصا او جلبابا ... عرفت حينها لماذا تضع امى بقايا الطعام منفصله فى اكياس نظيفه وتحكم غلقها قبل ان تضعها فى اكياس (الزباله) , وفهمت ما قيمه ان تفصل بين الملابس المتقطعه والتى لا تصلح للاستخدام وبين باقى الزباله حتى لا تتسخ . فى النهايه لن اتوقف طويلا امام هولاء ممن يسمونهم (اطفال الشوارع) وهى ظاهره يتحدث عنها الكثيرين من باب المشكله (العويصه) التى لا يجدوا لها حلا ولكنهم دائما يلقون باللوم عليهم كمنبت لصناعه البلطجيه او المجرمين وكأن اللوم على نبات الخشخاش وليس من زرع بذره الخشخاش وروج لها , يتحاملون على النتيجه متوعدين بأشد العقاب ولكنهم يتخوفون من الحديث عن أصل المشكله . أتذكر حين ظهر علينا صاحب الوجه غير المألوف عاطف عبيد فى احدى تصريحاته للصحافه والابتسامه لا تفارق شفتيه وملامح وجهه لا تتأثر بالموقف وبعد حديثه عن قناه السويس كبديل لحل مشكله ديون مصر الخارجيه – لا اعرف ان كان يقصد بيعها او تأجيرها – تحدث عن المعدمين فى مصر وان نسبتهم وصلت الى 20% من السكان وانهم من اولويات عمله , بعدها سأله الصحفى : ما المقصود بالمعدمين ؟ أجاب : من يصل معدل الدخل اليومى للفرد (صفر) يصنف كمعدم ... ليس لدى احصائيات عن عام 2012 ولكن هذا التصريح منذ اكثر من ثمانى سنوات .
أكملت طريقى فى اتجاه محطه المترو (غير مبالى) بما رأيت وكأنه امر طبيعى , ركبت متجها الى محطه الشهداء (ميدان رمسيس) العربات مليئه بالاجسام المتراكمه والمحشوره كقطع السردين داخل العلب المعدنيه , توقف القطار فى المحطات المتتاليه ينزل البعض القليل ويركب اضعافهم وهكذا حتى وصلت الى مبتغاى , وما ان انفتح الباب حتى انفجر حشد من الناس من كل العربات , الجميع يسير مسرعا كى يلحق بعمله او دراسته لا ينظر احد لاخر الا من صديقين يتسامران فى طريقهما او حبيبين تظهر فى عيونهم لمعه خاصه وابتسامه متردده بين السعاده والحزن وهما يتفارقان مودعين لتغير الفتاه الاتجاه وتذهب لتستقل المترو فى الاتجاه الاخر والشاب يذهب فى اتجاه الخروج , كنت انا خلف الشاب الذى سار منتعشا وهو يغنى ( حبيبى وانت بعيد .. بشتاق للمسه إيد ) ... لم يلفت انتباهى فى طريق الخروج سوى الزحام وخلف الباب الحديدى نوم طفل بنفس الملامح التى رأيتها على القابعين فوق اكوام (الزباله) ليس هناك فارق الا الابتسامه الملائكيه فتخيلت ملاكا يداعبه فى جنه احلامه (الغير واقعيه) , فرغما عنى ابتسمت وذهب خيالى معه طوال بقيه طريقى – من رمسيس الى الدراسه— فرأيته يبيع المناديل الورقيه واعقاد الفل للسائقين فى اشارات المرور , وينتهى اليوم باكتساب خبره التذلل للمشترين والتفنن فى الهرب من رجال الشرطه ولكنه لم يكسب ما يشبع جوع بطنه , رأيته يترك البيع للتسول وتزداد خبرته فى اظهار التذلل والخضوع ليلقى له احدهم جنيها , ثم رأيته يكبر ويكبر حتى أصبح شابا يافعا لا يمكن ان يقبل هو بالتسول او يقبل احد ان يعطيه شيئا اذا تسول فاتجه الى (النشل) ثم رأيته يتحول الى بلطجى قاطع طريق , ثم قاتل مأجور ... توقفت السياره بالجهه المقابله للمستشفى فانقطعت خيالاتى وقطعت الطريق لادخل المستشفى متجها الى قسم الجراحه العامه ومنه الى قاعه المحاضرات , وبدأ الملل الذى غبت عنه كثيرا .. الدكتور جالس على مقعد وبعض الاوراق امامه يقرأ ما فيها بصوت خفيض بطئ متكاسل ولا يرفع نظره عن الورق او يحرك ساكنا , فقررت النوم حتى ينتهى اليوم واعود .


شارك اصدقائك